وأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين في الهجرة إلى المدينة. فبادروا إليها. وأوّل مَن خرج أبو سلمة بن عبد الأسد، وزوجته أم سلمة. ولكنها حبست عنه سنة، وحيل بينها وبين ولدها. ثم خرجت بعدُ هي وولدها إلى المدينة. ثم خرجوا أرسالاً، يتبع بعضهم بعضاً، ولم يبق منهم بمكّة أحد إلاّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر، وعليّ ـ أقاما بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما، وإلاّ مَن احتبسه المشركون كرهاً. وأعدّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهازه، ينتظر متى يؤمر بالخروج. وأعدّ أبو بكر جهازه. تآمر قريش بدار النّدوة على قتل رسول الله: فلمّا رأى المشركون أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة عرفوا أنّ الدّار دار منعة، وأنّ القوم أهل حلقة وبأس، فخافوا خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيشتدّ أمره عليهم؛ فاجتمعوا في دار النّدوة، وحضرهم إبليس في صورة شيخٍ من أهل نجد، فتذاكروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فأشار كلّ منهم برأي، والشّيخ يردّه ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل: قد فُرِق لي فيه برأي، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: ما هو؟ قال: أرى أن نأخذ من كلّ قبيلةٍ من قريش غلاماً جَلْداً، ثم نعطيه سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فيتفرق دمه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، ولا يمكنها معاداة القبائل كلّها، ونسوق ديته. فقال الشّيخ: لله درّ هذا الفتى، هذا والله الرّأي، فتفرقوا على ذلك. فجاء جبريل، فأخبر النَّبِيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك. وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك اللّيلة. وجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أبي بكر نصف النّهار ـ في ساعة لم يكن يأتيه فيها ـ متقنعاً، فقال: "اخرج من عندك"، فقال: إنّما هم أهلك يا رسول الله. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنّ الله قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصّحبةَ يا رسول الله. قال: "نعم". فقال أبو بكر: فخذ ـ بأبي أنت وأمي ـ إحدى راحلَتَيَّ هاتين، فقال: "بالثّمن". وأمر عليّاً أن يبيت تلك اللّيلة على فراشه. واجتمع أولئك النّفر يتطعلون من صِير الباب، ويرصدونه يريدون بيَاته، ويأتمرون أيّهم يكون أشقاها؟ فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فأخذ حَفْنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} الآية 9 من سورة يس. وأنْزل الله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2 الآية 30 من سورة الأنفال. ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت أبي بكر. فخرجا من خَوْخَة في بيت أبي بكر ليلاً. فجاء رجل، فرأى القوم ببابه، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّداً. قال: خِبْتُم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم، وذرّ على رؤوسكم التّراب. قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التّراب عن رؤوسهم. فلمّا أصبحوا: قام عليّ ـ رضي الله عنه ـ عن الفراش، فسألوه عن محمّد؟ فقال: لا علم لي به. ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر إلى غار ثَوْر، فنسجت العنكبوت على بابه. وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط اللّيثي، وكان هادياً ماهراً ـ وكان على دين قومه ـ وأَمِنَاه على ذلك، وسلما إليه راحِلَتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث. وجَدَّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافة، حتى انتهوا إلى باب الغار، فوقفوا عليه. فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو أنّ أحدهم نظر إلى ما تحت قديمه لأبصرنا. فقال: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية 40 من سورة التّوبة. وكانا يسمعان كلامهم، إلاّ أنّ الله عَمَى عليهم أمرهما. وعامر بن فهيرة يرعى غنماً لأبي بكر، ويتسمع ما يقال عنهما بمكّة. ثم يأتيهما بالخبر ليلاً. فإذا كان السّحر سرح مع النّاس. قالت عائشة: فجهزناهما أَحَثَّ الجهاز. وصنعنا لهما سُفْرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فأوْكَتْ به فم الجراب، وقطعت الأخرى عصاماً للقربة، فبذلك لقبت: "ذات النّطاقين". ومكثا في الغار ثلاثاً، حتى خمدت نار الطّلب. فجاءهما ابن أُريقط بالرّاحِلتَين فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة.
قصة سراقة بن مالك: فلمّا أيس المشركون منهما جعلوا لِمَن جاء فيهما دية كلّ واحدٍ منهما، لِمَن يأتي بهما أو بأحدهما. فجدّ النّاس في الطّلب. والله غالب على أمره. فلمّا مروا بحي من مُدْلج مُصْعِدين من قُدَيد. بَصُر بهم رجل فوقف على الحي. فقال: لقد رأيت آنفاً بالسّاحل أَسْوِدة، وما أُراها إلاّ محمّداً وأصحابه. ففطن بالأمر سُراقة بن مالك، فأراد أن يكون الظّفر له، وقد سبق له من الظّفر ما لم يكن في حسابه. فقال: بل هما فلان وفلان، خرجا في طلب حاجة لهما، ثم مكث قليلاً، ثم قام فدخل خباءه، وقال لجاريته: أخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمَة، ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يَخُط به الأرض حتى ركب فرسه. فلمّا قرب منهم، وسمع قراءة النّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأبو بكر يكثر الالتفات، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يلتفت، قال أبو بكر: يا سول الله، هذا سراقة بن مالك قد رَهَقنا. فدعا عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فساخت يدا فرسه في الأرض.
فقال: قد علمت أنّ الذي أصابني بدعائكما. فادعوا الله لي. ولكما أن أردّ النّاس عنكما. فدعا له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فخلصت يدا فرسه. فانطلق. وسأل رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: أن يكتب له كتاباً، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم. وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكّة، فجاء به، فوفى له رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. فرجع فوجد النّاس في الطّلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر. وقد كُفيتم ما هاهنا. فكان أوّل النّهار جاهداً عليهما. وكان آخره حارساً لهما.
قصة أم معبد: ثم مرّوا بخيمة أم مبعد الخزاعية، وكانت امرأة بَرْزة جلْدة، تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي مَن مَرَّ بها، فسألاها: هل عندها شيء يشترونه؟ فقالت: والله لو عندنا شيء ما أعوزكم القِرَى. والشّاء عازب ـ وكانت سنة شَهباء ـ فنظر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى شاةٍ في كِسْر الخيمة، فقال: "ما هذه الشّاة؟". قالت: خَلّفها الجَهْد عن الغنم. فقال: "هل بها من لبن؟". قالت: هي أجهد من ذلك. قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟". قالت: نعم ـ بأبي أنت وأمي ـ إن رأيت بها حليباً فاحلبها. فمسح رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بيده ضَرْعَها، وسمى الله ودعا. فتفاجّتْ عليه ودَرَّت فدعا بإناء لها يَرْبِض الرّهط. فحلب فيه حتى علته الرَّغوة. فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى روا. ثم شرب هو. وحلب فيه ثانياً فملأ الإناء. ثم غادره عندها وارتحلوا. فَقَلَّ ما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنُزاً عجافاً يتساوكن هزالاً. فلمّا رأى اللّبن، قال: من أين هذا، والشّاء عازب، ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله إلاّ أنّه مرّ بنا رجل مبارك، من حديثه كيت وكيت. قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه. صِفيه لي يا أم معبد. قالت: ظاهر الوضاءة، أبلح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثُجْلة، ولم تزرِ به صُعلة، وسيم قَسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَلَ، وفي عنقه سَطَع. وفي لحيته كثاثة، أحور أكحل، أزَج أقرن، شديد سواد الشّعر، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلّم علاه البهاء، أجمل النّاس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريبٍ، حلو المنطق، فَصْل. لا نذر ولا هَذْر، كَأَنّ منطقه خَرَزاتِ نظم يتحدرن، رَبْعة لا تقتحمه عين من قِصر، ولا تَشْنَؤه من طولٍ. غَصْن بين غصْنين، فهو أنضر الثّلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً. له ورفقاء يَحُفُّون به. إذا قال استمعوا لقوله. وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود. لا عابس ولا مُفْنِد (1 هو الذي لا فند ولا ضعف في كلامه ولا يرد عليه في أي شأن لكمال قوّته وحكمته). قال أبو معبد: هذا ـ والله ـ صاحب قريش الذي تطلبه. ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن، إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. وأصبح صوت عالٍ بمكّة يسمعونه، ولا يرون القائل، يقول: جزى الله رَبَّ النّاس خير جزائه ... رفيقين حَلاَّ خَيمتي أم معبد هما نزلا بالبِر، وارتحلا به ... فأفْلَحَ مَن أمسى رفيق محمّد فيا لَقُصَيّ ما زوى الله عنكمو ... به من فخار، لا يحاذى وسؤدد وقد غادرت وهناً لديها بحالب ... يرد بها في مصدر ثم مورد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها؟ ... فإنّكمو إن تسألوا الشّاة تشهد دعاها بشاة حائل، فتحلبت ... له بصريح ضَرَّة الشّاة مزبد لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقُدِّس مَن يَسْرِي إليه ويغتدي ترحّل عن قومٍ؛ فزالت عقولهم ... وحلّ على قومٍ بنور مجدد هداهم به_بعد الضّلالة-ربّهم ... وأرشدهم، مَن يَتْبَع الحقّ يرشد وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هديّ، حلّت عليهم بأسعد نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله ... ويتلو كتابَ الله في كلّ مشهدٍ وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ ... فتصديقها في ضَحوة اليوم أو غد لِيَهْنَ أبا بكر سعادة جدّة ... بصحبته، مَن يُسْعِد اللهُ يَسْعَد ويَهْنَ بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ويقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء بنت أبي بكر: مكثنا ثلاث ليالٍ لا ندري أين توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟ إذ أقبل رجل من الجنّ من أسفل مكّة يتغنى بأبيات غناء العرب. والنّاس يتبعونه. ويسمعون منه ولا يرونه. حتى خرج من أعلى مكّة. فعرفنا أين توجّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ. قالت: ولما خرج أبو بكر احتمل معه ماله. فدخل علينا جدّي أبو قحافة ـ وقد ذهب بصره ـ فقال: إنّي والله لأراه قد فجعكم بماله مع نسفه. قلت: كلا والله، قد ترك لنا خيراً، وأخذت حجارة، فوضعتها في كُوة البيت. وقلت: ضع يدك على المال، فوضعها، وقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن. قالت: والله ما ترك لنا شيئاً. وإنّما أردت أن أسكت الشّيخ.
بارك الله فيك
على جميل طرحك واختيارك لنا الموضوع القيم
نسأل الله ان يجعله في ميزان حسناتك
نسأل الله ان يجعلك من عباده الصالحين
ونسأل الله ان يجعل الفردوس الاعلى هى دارك وقرارك
ونسأل الله ان يغفر لك ويجعلك من السعداء
الفائزين فى الدنيا والاخرة
نزف القلم